يكتظ ملعب مدينة أغادير بجمهور صاخب ويمزِّق الشباب ذوي الشعر الطويل قمصانهم عن أجسامهم ثم يلوِّحون بها مثل أعلام على وقع الموسيقى. ويرقص جمهور الشباب، يتزاحمون نحو صفوف الجنود ورجال الشرطة ويحاولون إبعادهم. وتنزلق فتاة شجاعة من خلال الصفوف وتقفز بين الموسيقيين. وثم ترقص معهم للحظة قبل أن يسحبها المنظِّمون من على الخشبة. ولكن بعد الأغنية النهائية لا يقف في وجه الجمهور أي شيء؛ ويتجاوز الشباب جميع الحواجز وينتزعون الآلات الموسيقية من الموسيقيين الذين يعانقونهم بشوق ولهفة. وقبل النزول عن الخشبة تقف شابة مغربية مربوعة القوام في طريق الفنَّان العربي باطما وتلقي له وشاحها حول عنقه…
ويدل منظر ناس الغيوان على انطباعات من فترة السبعينيَّات الصاخبة. وفي الواقع كان يبدو هؤلاء الفنَّانون والموسيقيون المغاربة ذوي الرؤوس المجعدة بسراويلهم الضيِّقة تمامًا مثل نجوم موسيقى الروك في يومنا هذا. ولكن إنَّ مَنْ يصغي لهم ويدقِّق في موسيقاهم يلاحظ أنَّهم لم يكونوا يستخدمون الغيتار الكهربائي ولا مجموعات الدرامز الضخمة. حيث كانوا يقتصدون في استخدام الآلات الموسيقية ويغنّون بعض أغانيهم على إيقاع التصفيق.
موسيقى دينية ومتمرِّدة في الوقت نفسه
وثم بدأ الموسيقيون استخدام الآلات الموسيقية التقليدية مثل آلة الحراز Harraz – طبول الموسيقيين المتجوِّلين والمتسوِّلين وكذلك طبلة الصوفيين المغلقة من الجانبين وطبل الجيلالة والعيساوة أو آلآلات الوترية الخاصة بموسيقيي الكناوة. وقد كانوا في الواقع يعزفون على هذه الآلات موسيقى الطرق الصوفية الشعبية مثل الجيلالة والحمادشة ولكن قبل كلِّ شيء موسيقى الكناوة. ولكنهم مع ذلك كانوا يؤلفون نصوصًا جديدة وبعضها بأسلوب الشعر الديني الصوفي ولكن دائمًا بمباشرة جريئة وباندفاع اجتماعي: كان يُنظر في الأوساط المغرببة المثقَّفة في فترة الستينيَّات والسبعينيَّات في المركز المغربي الثقافي مدينة فاس إلى هذه الموسيقى على أنَّها موسيقى رجعية وبدائية.
ولم يكن من النادر اعتبارها جزءًا من تحضير الأرواح وأعمال السحر التي تستخدم كطقوس شعبية للعلاج. وكانت الإذاعة المغربية بدلاً عن ذلك تبثّ موسيقى مزركشة مليئة بالأشواق أو نغمات جميلة لآلة القيثارة والكمان. وقد كانت الإثارة بظهور أربعة موسيقيين يعزفون على الآلات التقليدية ويغنّون أغانيهم ونصوصهم الخاصة ويملأون من خلال ذلك بعد فترة قصيرة أكبر الصالات والملاعب في المغرب.
ناس الغيوان – بيتلز المغرب
وفي شهر حزيران/يونيو 1971 عزفوا في المسرح الوطني في الرباط كأوَّل فرقة لأوركسترا الإذاعة. ولكن الجمهور لم يترك هذه الأوركسترا مع برنامجها الكلاسيكي العربي والغربي فوق الخشبة واحتفل بدلاً عن ذلك بناس الغيوان وبعد ذلك وصفتهم الصحافة المغربية بصفة “بيتلز المغرب”. وانضم في نهاية الستينيات هؤلاء الشباب الأربعة في حي المحمدي العمالي في مدينة الدار البيضاء إلى فرقة مسرحية وكانوا يعزفون على آلاتهم الموسيقية التقليدية المقطوعات التي تعبِّر عن انتقادات اجتماعية. وقد حقَّقوا نجاحًا كبيرًا بحيث أنَّهم كوَّنوا فرقة “ناس الغيوان” الموسيقية. وفي الواقع كانت هذه المجموعة أيضًا أوَّل من بدأ في المغرب في تحديث الموسيقى التقليدية من خلال إدخالهم آلة البانجو الموسيقية.
وكان موسيقيو “الغيوان” الذي سمى “ناس الغيوان” أنفسهم باسمهم شعراء متجوِّلين في المغرب القديم وأعضاء في الطرق الصوفية الشعبية كانوا يوافون الناس من خلال أغانيهم بآخر الأخبار وبالرسائل الدينية وكذلك يسلّون مستمعيهم. وبدأت مجموعة ناس الغيوان بعد وقت غير طويل من الاستقلال وفي خضم أشدّ وأصعب أزمة اقتصادية وفي فترة القمع السياسي بمزج الموسيقى الشعبية الصوفية مع نصوصها الخاصة. وكذلك كانت مجموعة ناس الغيوان أوَّل فرقة موسيقية مغربية تقدم على التنديد بحالة البؤس والشقاء التي يعاني منها الشباب والمحرومين وبالإضافة إلى تنديدها بالاستبداد والفساد المتفشي؛ ومن أغانيهم التي تعبِّر عن ذلك:
“سبحان الله
صيفنا وَلىَّ شتوة…
جُور الحُكَّام زادنا تَعَبْ وْقَسوة
لا راحة وْالعباد في نَكد وْتَعسيف
والحاكم كايْصول كايقبض الرشوة”.
(مقطع من أغنية “سبحان الله” لناس الغيوان)
الموسيقى الصوفية والاحتجاجات العربية
وعلى الرغم من أنَّهم جاءوا من أوساط الطلبة الفكرية اليسارية في مرحلتهم إلاَّ أنَّهم لم يكونوا يعبِّرون عن قناعات سياسية، بل كانوا يغنّون عن يأسهم وانعدام الأمل وكذلك عن ضياع الشباب القادمين من الريف إلى المدينة. ولكنهم كانوا كذلك يحتفلون في الموسيقى الصوفية بما يجري لدى الحركة الطلابية الغربية، وهذا ما يزال يعدّ حتى يومنا هذا جزءًا لا يتجزَّأ من جميع الاحتجاجات العربية؛ أي الحماس الديني الذي يتَّجه به المرء إلى الله طلبًا للعون والمساعدة. وفي المقابل إنَّ موسيقى الكناوة التي تعتبر إرث الرقيق الأفارقة السود في المغرب يتم عزفها دائمًا على الإيقاعات والنغمات الخماسية الأفريقية لموسيقى الجاز، وتتخللها دائمًا كلمات غريبة من لغة شعب بامبارا في غرب أفريقيا وقبائل الولوف، وتعكس شعور الشباب المحرومين والمضطهدين. وكذلك كان موسيقيو الكناوة يعتبرون أنفسهم أيضًا كعبيد للقمع والاضطهاد.
وفي عام 1974 انتقل عازف الكمبري الشاب عبد الرحمن باكو من معقل موسيقى الكناوة التقليدي مدينة الصويرة إلى مجموعة ناس الغيوان وزاد تأثير موسيقى الكناوة ذات الأصول الأفريقية السوداء على هذه المجموعة. وهكذا يعود الفضل أخيرًا وليس آخرًا إلى ناس الغيوان في كون موسيقى الكناوة صارت تتمتَّع اليوم في المغرب بقدر كبير من الإعجاب. بيد أنَّ باكو انسحب في عام 1993 بعد نحو عشرين عامًا من صخب مجموعة ناس الغيوان وانتقل من جديد إلى جذوره – أي إلى ثقافة موسيقى الكناوة في مدينة الصويرة حيث أصيب هناك قبل بضعة أعوام بجلطة دماغية قيَّدته في سريره منذ ذلك الحين. ولكن حمل إرثه ابنه يونس باكو الذي كان يعزف مع مجموعة ناس الغيوان وهو صبيًا صغيرًا.