“قال لنا العماري (مدير المخابرات) حرفيا: إني مُستعد لقتل ملايين الجزائريين إذا تطلّب الأمر للمحافظة على النظام الذي يُهدده الإسلاميون. وأنا أشهد أنه كان في غاية الجدية”!
(جزء من شهادة ضابط المخابرات الجزائري السابق محمد سمراوي)
كانت وفاة الرئيس الجزائري الأسبق هوّاري بومدين في ديسمبر/كانون الأول 1978م دون نائب يخلُفه -وهو ما حرص عليه طوال حكمه- قد أشعل الصراع على خلافته بين رجال الحزب الحاكم بزعامة محمد صالح يحياوي وبين رجل الدبلوماسية الأول عبد العزيز بوتفليقة، ليتدخل الجيش بدوره في هذا الصراع مرشحا واحدا من قدامى رجاله وهو الشاذلي بن جديد، وقد نص دستور 1976 على ضرورة اختيار رئيس الجمهورية من قِبل جبهة التحرير الوطني حصرا. وبالفعل، ارتقى الشاذلي بن جديد أمينا عاما لحزب جبهة التحرير، بما يعني أنه المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية لا سيما مع ثقله العسكري، الأمر الذي أسفر في نهاية المطاف عن تقلده لمنصب رئيس الجزائر في 9 فبراير/شباط 1979م.
رغم ذلك، ظل الصراع قائما بين اتجاهين، أولهما يطالب بدعم جهاز الدولة واختيار المسؤولين من بين أعضاء المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير وعلى رأسهم عبد العزيز بوتفليقة، والاتجاه الآخر انصبّت دعواه في التركيز على دعم جهاز الحزب على حساب جهاز الدولة وذلك عن طريق تفرّغ المكتب السياسي للمهام الحزبية فقط وكان على رأس هؤلاء محمد صالح يحياوي.
استغل الرئيس/العسكري الشاذلي بن جديد هذا الصراع لصالحه حين شرع في بسط نفوذه وتقوية مركزه، ولم يمر عامان على تقلّده لرئاسة الدولة إلا وتركزت في يديه وظائف وزير الدفاع الوطني والرئيس الأعلى للقوات المسلحة والأمين العام للحزب، واتجه بن جديد إلى ما هو أعمق وأبعد من ذلك حين طالب بإعادة تقييم التجربة السياسية وضرورة إحداث تغيير سياسي واقتصادي في البلاد التي سارت على وتيرة واحدة غير تعددية منذ الاستقلال، لكن هذه المطالبات واجهها رجال هواري بومدين وكانوا أكثر نفوذا وعددا في دولاب الدولة ومناصبها المفصلية.

تزامنت حالة الصراع الداخلي بين مراكز القوى في الدولة مع انهيار سعر البترول بصورة حادة، الأمر الذي حمل آثارا قاسية على واقع الجزائريين المعيشي، وتفاقمت معه أزمة السكن والبطالة في بلد كان يستورد معظم ما يأكل ويلبس، وزادت الأسعار بطريقة جنونية لم يستطع فقراء الجزائر مجاراتها، وليصل الحال باتجاه عجز الجزائر حينذاك عن دفع فوائد ديونها للمؤسسات والبنوك الدولية.
شعر الشاذلي بأنه ضعيف الجانب أمام كبار رجالات حزب جبهة التحرير ممن وقفوا عائقا أمام أي تغيير لميراث بومدين في مفاصل الدولة، وكانوا في الحقيقة أكبر المنتفعين بهذا الجمود السياسي والاقتصادي على المستوى الشخصي، وقد تكتلوا ضده على الدوام في اجتماعات اللجنة المركزية للحزب ضد الانفتاح السياسي والاقتصادي في البلاد، وإزاء هذا الانسداد خرج الرجل في لقائه الشهير في سبتمبر/أيلول 1988م يعلن عن ضرورة إجراء هذه الإصلاحات في جسد النظام، وكان هذا اللقاء بمنزلة الشرارة التي أشعلت الاحتجاجات.
والحق أن العلاقة بين السلطة والمجتمع أثناء تلك الحقبة لم تكن تستند إلى عقلانية الحقوق والواجبات كما يشير المراقبون والباحثون، أي إلى منطق التكافؤ، وإنما إلى قهر في مختلف أشكاله وأبشع صوره، فقد أدت الممارسة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الطويلة والجامدة إلى استنزاف جهاز الدولة وإلى اهتزاز رمز هذه الدولة في الخيال الشعبي، كما يعود هذا الاهتزاز إلى عمق الفجوة بين المعايير الثورية التي كان يتبنّاها الخطاب السياسي وتعلنها الوثائق الرسمية وبين آثارها التي لم يجد المواطن الجزائري لها على أرض الواقع أي دليل.
ومثلما يقول المنصف ونّاس، فإن الدولة الوطنية التي طالما حلم بها الجزائريون لم تكن تلك المعجزة المنتظرة، ربما كانت أقل حتى من الطموح الشعبي، فنموذج هذه الدولة التي تولّدت من ثورات الجزائريين وتضحياتهم كان زهيدا ومخيبا للآمال بسبب ما صحبه من سلوكيات بالغة القسوة والفظاظة، وسرعان ما جاء الاستبداد من جديد، من الثورة إلى الدولة!
والمجتمع المدني في الجزائر، وقد كان هذا الانفجار المدوّي علامة أكيدة على حجم الكبت المتراكم[6].

لذلك؛ مثّلت انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988م ثورة الشباب الذي لم يعد قادرا على العيش في كنف الحزب الواحد الذي استولى على السلطة واستأثر بها، فكانت “ربيعا جزائريا” مبكرا أدرك مجيئه الشاذلي بن جديد قبل حدوثه، وألقى بظلاله على حزب جبهة التحرير التي أُجبرت على الإصلاحات السياسية وعلى رأسها تغيير الدستور الذي سمح في مادته الأربعين بالتعددية السياسية والحزبية في الجزائر لأول مرة منذ استقلال البلاد عن المحتل الفرنسي.
أفرزت تلك الحرية التي أقرها دستور 1989م في الجزائر ظهور التعددية السياسية، وأصبح في الجزائر لأول مرة 60 حزبا، كان الأكثر بروزا وانتصارا في كل ذلك، ظهور التيار الإسلامي على سطح الحياة السياسية، متمثلا في “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” التي أُنشئت في مارس/آذار 1989م وتم الموافقة رسميا عليها من قِبل الدولة الجزائرية في سبتمبر/أيلول من العام نفسه، بزعامة عباسي مدني وعلي بلحاج، وهذا الأخير كان صاحب جماهيرية عريضة وحضور كاريزمي أسهم في رفع شعبية الجبهة في كامل الولايات الجزائرية.

كان من اللافت أن الرئيس الشاذلي بن جديد استقبل زعماء هذه الحركة بُعيد انتفاضة 1988م، رغبة منه في امتصاص الغضب المكتوم، وسمح الشاذلي، احتراما منه لإفرازات الديمقراطية، بالحرية الكاملة والتامة للتيار الإسلامي، وعلى رأسه “الجبهة الإسلامية”، في التمدد والانتشار في البلاد، حتى إنه اتُّهم من قِبل الاشتراكيين والعسكر وغيرهم من منافسي الإسلاميين التقليديين بالجهل والتغاضي عن خطورة الجبهة وسعيها للسلطة.
لم يأبه الشاذلي لكل هذه الأصوات، والتزم بالديمقراطية ومواعيد الانتخابات بعد إنهاء الإضراب من قِبل الجبهة وانسحاب الجيش بسبب خلافات وتعنتات بين الطرفين، وفي 12 يونيو/حزيران 1990م أُجريت الانتخابات البلدية المحلية في عموم البلاد، ليحقق التيار الإسلامي فيها حضورا وفوزا كبيرا. تزامن ذلك مع تصاعد وتيرة العنف التي قادتها قوات الأمن ضد الإسلاميين، الأمر الذي اضطر هذا التيار وعلى رأسه “جبهة الإنقاذ” إلى القيام بمظاهرات واحتجاجات عارمة في طول البلاد، فضلا عن رفضهم التقسيم الإداري الجديد الذي رأوا فيه محاولات لعرقلة النفوذ والتضييق؛ لتدعوا الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى إضراب عام في مايو/أيار من العام التالي 1991م، وفي الخامس من يونيو/حزيران أعلن الشاذلي بن جديد الأحكام العُرفية في البلاد، ليُعتقل معها عباسي مدني وعلي بلحاج.

ووفق قراءات تاريخية، يبدو أن قرار الشاذلي بن جديد كان بإيعاز وضغط من الجيش الذي كان يعارض صعود الإسلاميين بصورة علنية في أوقات كثيرة قبل الانتخابات التشريعية، معاداة تجسّدت ذروتها حين أعلن المدير العام لوزارة الدفاع الجنرال مصطفى شلوفي في بداية فبراير/شباط 1990م اتهامه لجبهة الإنقاذ صراحة بمحاولاتها الاستفادة من الديمقراطية لفرض نفسها، وذكر بأن الجيش حارس الدستور والحريات العامة، كما رفض الخلط بين الديمقراطية والفوضى، لترد الجبهة عبر مجلة “المنقذ”، ذراعها الإعلامي آنذاك، داعية الشعب إلى الحذر من التهديدات العسكرية، ليرد الجيش عبر وسائله بأن الدستور أعطاه حق التدخل لحماية الحريات العامة، كما أصدرت قيادة الجيش في أبريل/نيسان 1990م أمرا يقضي بمنع اللحية والحجاب في المستشفى العسكري بالعاصمة، ولتهدد الجبهة من ناحيتها بحمل السلاح، إلا أن المراشقة الكلامية لم يصحبها مواجهة مباشرة[7]، لتهدأ الأوضاع وتجري الانتخابات البلدية أخيرا والتي أفضت إلى فوز الجبهة الإسلامية، وهو ما اعتُبر بداية طريقها الممهّد نحو السلطة.
النتيجة صاعقة على الرئيس بن جديد وحزب الجبهة فضلا عن الجيش والمؤسسات الأمنية التي كانت على رأس الرافضين لهذا التيار منذ بدايات صعوده فيما عُرف حينها بزمن “الصحوة” منذ أوائل الثمانينيات[8]، لكن اختلاف رجالات السلطة وانقساماتهم الداخلية، والأزمات الاقتصادية التي كانت تعيشها البلاد، أعأعادت ترتيب أولوياتهم بالتزامن مع صعود الإسلاميين الذين كانوا يتوغلون في بنى المجتمع المدني في جامعاته وجمعياته ومدارسه وغير ذلك.

الواقع أن التيار الإسلامي والعُلمائي كان متوغلا ومتعمقا في الجزائر منذ ما قبل الاستقلال؛ فقد واجه المحتل الفرنسي بشراسة عبر “جمعية العُلماء المسلمين الجزائريين” التي أسّسها العلامة والمناضل عبد الحميد بن باديس ومعه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وآخرون من كبار علماء الجزائر، والذين أشعلوا الثورة والنضال، وأنشأوا المجلات للوصول إلى شرائح الجزائريين في كافة بلدانهم، والتي كانت مجلة “البصائر” على الرأس منها، لتكون صوتا صادحا في مواجهة المستعمر الفرنسي، ناشرين من خلالها أفكارهم، وعلى رأسها تحريض في تطويقها وشلّها. حاول بومدين، الذي كان يعلم حقيقة مدى تشبث الشعب الجزائري بالإسلام، أن يعوّض من الفصل بين الدين والسياسة بالضوء الأخضر الذي أُعطي لوزارة التربية لإدخال الدين في البرامج المدرسية وبالنص في دستور عام 1976م على المبدأ القائل “إن الإسلام دين الدولة”.
وفي ظل إسلام رسمي فقد هيبته في اطّراد مستمر كما يشير عبد الحميد البراهيمي أحد شهود العيان على تلك الحقبة، قويت شوكة إسلام معارض، لا يضيق بالتقاليد، وإنما يأخذُ منها بالحد الأدنى، وفيما تبقّى فإنه يتعامل وفقا لتأويلاته الخاصّة، وكان رائد النزعة الإسلامية في جزائر الستينيات والسبعينيات الفيلسوف والمفكر مالك بن نبي، كما كان مسجد الكلية الرئيسية بجامعة الجزائر منذ العام 1968م ملتقى العديد من زعماء الحركة الإسلامية في المستقبل، وفي عام 1973م وقع أول حادث صدام بين الطلبة الإسلاميين والطلبة اليساريين على إثر حريق في مسجد الكلية[11]، ومنذ تلك اللحظة صعد تيار الإسلاميين بمختلف تشكلاته من الإخوان والسلفيين على سطح المجتمع الجزائري، وعلى مدار عقدين كاملين (1968-1988م) ظل هذا التيار يعمل بجد للانتشار في المجال العام حتى حانت لحظة الثمرة.

عبر التعددية السياسية إلى الصعود على سطح الحياة السياسية، والتطلع إلى حكم الجزائر، بيد أن الانقلاب العسكري كان السبب الرئيسي في تقوية نفوذ جناح المعتنقين للعمل المسلح داخل التيار الإسلامي في الجزائر على حساب تيار التعايش مع الواقع، ومحاولة الإفادة من المتاح، وتبني أفكار التعددية والديمقراطية والتغيير السلمي والذي كان قد اعتُقل عُقيب الانقلاب مباشرة.
كانت حركة “الإنقاذ” تميل في أغلبها إلى التعايش والاستفادة من الواقع، وترى في العمل المسلح خطرا شديدا، ورغم انخراط كثير من عناصرها بعد ذلك في العمليات العسكرية في فترة العشرية السوداء، فإنه على الجانب الآخر ظهرت عدة حركات إسلامية تبنت المواجهة المسلحة، مثل “الجيش الإسلامي للإنقاذ” والذي ينفي عباسي مدني زعيم الجماعة بأنه أُنشئ بعلم الجماعة لوقوع رؤسائها في السجن[12]، وظهرت أيضا “الحركة الإسلامية المسلحة” التي رفضت تلك الحلول السلمية باعتبارها تهاونا مع “المرتدين” وهم في نظرهم الحكام ورجال السلطة في العالم العربي.
انخرطت الحركة المسلحة في مواجهة قوات الأمن والجيش الجزائري بقيادة عبد القادر شبوطي الشاب الذي كان في منتصف الثلاثينيات من عمره، والذي عُرف باسم “اللواء” بسبب قدراته العسكرية النشطة، وكان من أبرز رجالات حركة مصطفى بويعلي، واستطاع قيادة الحركة المسلحة بعد انقلاب يناير/كانون الثاني 1992م.
لعب شبوطي على عاملي المواجهة المسلحة والحرب الإعلامية أمام قوى الأمن، فأصدر مناشير كانت تعلق في المساجد وعلى جدران الشوارع، وقد تمكّنت هذه الحركة لاحقا من إنشاء إذاعة الوفاء التي كانت أهم أداة إعلامية لتعبئة الجزائريين ضد النظام القائم حينذاك، وكانت تحرص على بث آخر أخبار الاشتباكات العسكرية بين الجانبين، وكانت أبرز عملياتها آنذاك تفجير مقر رياض الفتح، ووضع قنبلة في مقر التلفزيون الجزائري، ووضع قنابل تقليدية في السفارة الأميركية في الجزائر، ومئات القنابل في مخافر الشرطة والدرك الوطني، والهجوم على ثكنات ومخافر قوات الأمن والاستيلاء على أسلحتها.
على أن “الجماعة الإسلامية المسلحة” دخلت منعطفا أشد خطورة وتشددا حين ارتقى أبو طلحة عنتر الزوابري لإمارة الجماعة في صيف عام 1996م، فبعد تثبيت موقعه في زعامة الجماعة؛ شرع في حملة بالغة الصرامة كان هدفها فرض رؤيته “للدولة الإسلامية” التي يسعى إلى تحقيقها على الشعب الجزائري بالقوة، وكانت تلك المحاولة وما صاحبها من تحريم وتحليل، وتبديع وتفسيق، وتكفير وتأثيم، المؤشر الأبرز على أن “الجماعة المسلحة” كانت تتجه لا محالة نحو سياسة تكفيرية مستقبلا، وأعلنت الجماعة في بيانها الأول تحت قيادة الزوابري الحرب على الخصخصة في الجزائر بهدف الخناق الاقتصادي على النظام الحاكم.
وقال الزوابري في باكورة قراراته باعتباره “أمير المؤمنين في الديار الإسلامية في الجزائر”، و”ولي أمر” المسلمين إنه يعتبر كل العقود والصفقات التي تُبرم مع النظام الحاكم باطلة وغير شرعية، وأكد الزوابري إصراره على مواجهة كل من يعمل لصالح “النظام”، ودافع عن قرارات أصدرها سلفه زيتوني مثل قرار إهدار دم عمال قطاع المحروقات مثل سوناطراك ونفطال[15].
قرب العاصمة، والتي قُتل فيها ما بين 200 إلى 300 جزائري، وتلتها مذبحة بني مسوس والتي سقط فيها 80 شخصا، ثم المذبحة الأفجع في حي بن طلحة جنوب العاصمة الجزائر.
خرج الزوابري ببيانه الشهير “صد اللئام عن حوزة الإسلام” مُعلنا تبنيه لتلك لمذابح، وتكفير الشعب الجزائري علانية، فقد جاء فيه أن “الكفر بالطاغوت يستوجب البراءة من أتباعه وعبدته والكفر بهم وبدينهم، وهذه الجماعة الربانية… كما تفكر بالطواغيت جميعا فإنها تكفر أيضا بأهلهم وأتباعهم وكل من نصرهم أو والاهم، ولذلك تجدها تتبع آثار هؤلاء الموالين للمرتدين في المدائن والقرى والصحاري تستأصل شأفهم، وتبيد خضراءهم، وتغنم أموالهم، وتسبي نساءهم ليذوقوا وبال أمرهم”[18].
وُصفت في بعض الصحف الأوروبية بأنها “حرب أهلية جزائرية”، ولعل كتاب الضابط السابق في الجيش الجزائري الحبيب سويدية “الحرب القذرة” كشف لنا تفاصيل مذهلة عما جرى حينذاك، وهو كتاب يُلقي باللائمة على أجهزة الأمن والمخابرات التي دخلت بثقلها في هذه الأزمة، وتورطت في بعض المجازر لخلط الأوراق، ولتحقيق المكاسب.
وما كادت رواية سويدية تنتشر بين الناس وتلقى قبولا كبيرا وصدى واسعا إلا ورأينا كتابا آخر يؤكد ما ذهب إليه سويدية بضلوع الجيش في استغلال العنف لصالحه، بل وإشعاله من وقت لآخر، وقتل الأبرياء دون وجه حق كمسوّغ لاستمرار حربه وانقلابه ووجود نظامه السياسي، تلك هي شهادة نصر الله يُوس في كتابه المثير “مَن قتل في بن طلحة” تلك المجزرة التي وقعت في العام 1997م والتي راح ضحيتها عشرات من الجزائريين الأبرياء. ثم أخيرا شهادة ضابط المخابرات الجزائري الأسبق محمد سمراوي في كتابه “الإسلاميون والعسكر، سنوات الدم في الجزائر” وهو الضابط الذي عاين الأحداث، وكان شاهدا على صُنع القرار على يد الجنرالات والعسكر في مطابخ المخابرات بعيدا عن أعين الناس والإعلام، ولم يقدر سمراوي على تحمل ما شاهده من فظائع وجرائم في السنوات الأربع الأولى من الأحداث بحسب روايته، ليقدم استقالته في العام 1996م، وقد تبعه سويدية الذي هرب من الجيش إلى فرنسا في العام 2000م.
جماعات مقاتلين مزيفين خرجوا مباشرة من ثكنات مديرية الاستخبارات الأمنية. كان الهدف هو مضاعفة العنف ضد المدنيين، والإساءة إلى سمعة جميع المعارضين الإسلاميين، مسلّحين وغير مسلحين”.
ويؤكد سويّدية كلامه هذا بعشرات الدلائل التي ساقها، والتي كان شاهدا عليها أو التي ذكرها له شهود عيان، فعلى سبيل المثال، يروي له زميل من مديرية الاستخبارات عن حادثة وقعت في مايو/أيار 1994م، حيث اختطفت جماعة إرهابية عضوا بارزا وإماما في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، يُدعى علي آيت، “اختُطف في العاصمة من قِبل جماعة إرهابية قبل أن يتمكن من الهرب، روى بعدها بأن هؤلاء الرجال الملتحين والذين يرتدون الزي الأفغاني أخذوه إلى شقة مزدانة بالسيوف، والأعلام الصغيرة المغطّاة بالشعارات الإسلامية، ثم جلبوا ستة مدنيين ذُبحوا واحدا بعد الآخر أمامه، وكلّما قدّموا له واحدا من أولئك الرجال، طلبوا منه النطق بفتوى تُجيز لهم قتله، الأمر الذي رفضه الإمام.. روى لي ذاك الملازم بأن أولئك (الإرهابيين) هم في الحقيقة عملاء لمديرية الاستخبارات الأمنية، وما فعلوه كان عملية إفساد مخصّصة للتداول الإعلامي هدفها إفقادُ الإسلاميين سُمعتهم”[19].
سُمعتهم”[19].
يؤكد محمد سمراوي ضابط المخابرات الجزائري تلك الروايات، ويأتي بما هو أفظع وأدق من ذلك وهو الأقرب لمطبخ صنع المؤامرات، حين يقول: “كنّا نعيشُ في جوّ هستيري دموي، يُدلل عليه تصريح كاشف للعقيد إسماعيل العماري (رئيس جهاز المخابرات) بلغ حدّا لا يُصدّق؛ ظلّ منقوشا في ذاكرتي حتى اليوم، ففي شهر مايو/أيار 1992م، وأثناء اجتماع بحضور العديد من ضباط مديرية الجاسوسية المضادة، ومسؤولي الوكالة الوطنية لقمع اللصوصية، قال لنا العماري حرفيا: إني مستعد لقتل ملايين الجزائريين إذا تطلّب الأمر للمحافظة على النظام الذي يُهدده الإسلاميون. وأنا أشهد أنه كان في غاية الجدية”[20].

في ليلة 22-23 سبتمبر/أيلول 1997م ارتكب “الإرهابيون” مجزرة بشعة في حي “بن طلحة” إحدى الضواحي الجنوبية للعاصمة الجزائرية، راح ضحيتها 200 رجل وامرأة دون جريرة فعلوها، كان السؤال المحير دائما: لماذا لم تتدخل قوات الأمن لإنقاذ هؤلاء الأبرياء وهي على بُعد خطوات منهم؟ لماذا لم تُصلح أعمدة الإنارة في الحي وقد اشتكى الأهالي كثيرا من هذا الإهمال؟ لماذا لم يتدخل الجيش وقوات الأمن للقضاء على الإرهابيين في البساتين القريبة من الحي وقد أُبلغوا بمكانهم من شهود العيان وبعض أبناء الحي قبل المجزرة؟ لماذا كانت حُجة قوات الأمن دائما عدم قدرتها على اقتحام الحي بسبب الألغام التي وضعها الإرهابيون على الرغم من دخولهم أخيرا بعد المجزرة دون أن تقف في طريقهم أي ألغام؟ هل حرص المهاجمون على انتزاعها أثناء تراجعهم؟ هذا ببساطة محال.
ة محال.

أسئلة كثيرة طرحها شهود العيان على مذبحة حي “بن طلحة” الواقع على بُعد 15 كيلومترا جنوب العاصمة الجزائر، وعلى رأسهم عبد الله يُوس في كتابه المثير للألم “من قُتل في بن طلحة” والذي يسرد فيه معاناة أهل الحي وهو واحد منهم، وتفاصيل المجزرة المروعة، يتساءل الرجل: لماذا أمر رئيس أركان الجيش الجزائري حينذاك محمد العماري قبل سلسلة مجازر سبتمبر/أيلول 1997م بعدم خروج قواته من ثكناتها وبعضها قريب للغاية من مواقع تلك المجازر ومنها “بن طلحة”!
يزيد يوس فوق ذلك قائلا: “عندما لجأ سُكان الأحياء المصابة إلى أماكن أخرى آملين أن يحظوا فيها بالأمان، حاولت السلطات إجبارهم على البقاء في بيوتهم أو العودة إليها؛ إنهم لا يريدون أن يفضح مرأى الأحياء المهجورة انعدام كفاءتهم. جهّزوا إذًا مراكز مراقبة (أمنية) داخل المجمّع، وهو إجراء طالبنا به منذ زمن طويل. مصابيح الإضاءة الخارجية التي لم توضع في أماكنها طوال تلك السنوات بالرغم من المطالبة بها مرات ومرات، ركّبتها البلدية (للسخرية) بعد أسبوع من المجزرة”[23].

الشيء الوحيد الذي أسرعت بإرساله قوات الأمن قبل المجزرة -للغرابة والدهشة- كان سيارات الإسعاف، يقول يُوس مندهشا: “في الأيام التالية (على المجزرة) بدأتُ أعرف أكثر فأكثر أشياء تؤكّد لي توجّسي ومخاوفي. مساء المجزرة في الساعة الحادية عشرة، قبل حتى أن تنفجر القنابل الأولى، توقّفت عدّة سيارات إسعاف أمام مدرسة بن طلحة في الشارع الكبير، كما استقرّ رجال الشرطة أمام مجمع الـ200 مسكن… سيارات الإسعاف هذه بقيت أمام حيّنا طوال الليل، وهي التي نقلتنا مع الفجر إلى المشافي المختلفة. قرينة مرعبة أخرى تدعنا نفترض أن بعض العناصر في قوات الأمن كانت تعلم أن المجزرة ستحدث؛ قبور حُفرت سلفا، في مقبرة سيدي رزين، مقبرة محلة برّاقي التي يُشكّل حيّ بن طلحة جزءا منها، وقبل الحادثة بأسبوع، حُفر ثلاثون قبرا في مساحة مربّعة جديدة احتُفظ بها خصّيصا لضحايا المجازر، كنتُ قد رأيتُ هذه القبور المفتوحة سابقا، لكني لم أُعرها التفاتا”.
يُكمل يوس شهادته، ويقول إنه بعد المجزرة قرر الذهاب إلى المقبرة قائلا: “وتحدّثتُ مع الحارس الذي أسرّ لي أنه قبل المذبحة جاءه عسكريون وأمروه بحفر عدد من القبور، ثم جاء رجال الدرَك وطلبوا منه أن يقوم بردمها، وأخيرا وقبل يومين من المجزرة طلب العسكر منه إبقاء القبور مفتوحة. قال لي أيضا: إنه غداة المجزرة وفي الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا، أحصى ما مجموعه 147 قبرا، وإن الناس قد دُفنوا فيها كيفما اتفق، امرأة مع رضيعها، عدّة أشخاص في قبر واحد”[24].
المصادر : الجزيرة
- ص199، 200.
- محمد سمراوي: الإسلاميون والعسكر سننوات الدم في الجزائر ص187، 188.
- محمد سمراوي: السابق ص191.
- سمراوي: السابق.
- عبد الله يوس: من قُتل في بن طلحة ص249.
- عبد الله يوس: السابق ص219، 220.
- الجزائر إلى أين 1830- 1992م، ص16- 17.
- آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، مقدمة الجزء الأول.
- آثار البشير الإبراهيمي 5/317.
- عبد الحميد براهيمي: في أصول الأزمة الجزائرية ص112.
- سيفيرين لابا: الإسلاميون الجزائريون ص79، 83.
- مقابلة تلفزيونية مع عباسي مدني.
- الحركة الإسلامية المسلحة في الجزائر 1978 إلى 1993، ص72- 76.
- السابق ص77.
- الحركة الإسلامية المسلحة في الجزائر من الانقاذ إلى الجماعة ص258.
- السابق ص258، 259.
- لقاء أبوحمزة المصري، لندن، يونية 1998م.
- العدد الأول من نشرة الجماعة المسلحة، أيلول 1996م، ص35، 36.
- الحبيب سويدية: الحرب القذرة ص199، 200.
- محمد سمراوي: الإسلاميون والعسكر سننوات الدم في الجزائر ص187، 188.
- محمد سمراوي: السابق ص191.
- سمراوي: السابق.
- عبد الله يوس: من قُتل في بن طلحة ص249.
- عبد الله يوس: السابق ص219، 220
- الحبيب سويدية: الحرب القذرة ص199، 200.
- محمد سمراوي: الإسلاميون والعسكر سننوات الدم في الجزائر ص187، 188.
- محمد سمراوي: السابق ص191.
- سمراوي: السابق.
- عبد الله يوس: من قُتل في بن طلحة ص249.
- عبد الله يوس: السابق ص219، 220.